سعيا للخروج من المأزق الذي يسعى الانقلاب الي جر مؤيدي الشرعية إليه لإجبارهم علي استخدام العنف أو القتل وتكرار تجارب دول أخري اختارت هذا الطريق وتجرعت مرارات وآلاما عديدة.
ولأن السلمية لا تعني التواكل أو السلبية؛ وإنما تعني ابتكار الطرق والآليات لتأكيد النضال اللادموي، ولكنه في الوقت نفسه لا سلبي.
لجأت أكاديمية التغيير-وهي مؤسسة مهتمة بدراسات بناء المجتمعات القوية تأسست في عام 2006، مكتبها الرئيسي في فيينا، الي استقراء حروب المستقبل من خلال التنظير لـ"حروب اللاعنف".
وفي كتابيين متتالين صدرا حول تلك الفكرة، تعرض الأول "حرب اللاعنف-الخيار الثالث"-الذى صدر عام 2013 للمؤلفين وائل عادل، د.هشام مرسي، وأحمد عادل عبد الحكيم- لتعريف حروب اللاعنف واستعراض نشأتها وجذورها، ويؤكد أن أول من تعرض لحروب اللاعنف وإن كان قد استعمل مصطلح "العصيان المدني" للدلالة عليها، هو الكاتب الأمريكي "هنري دايفيد ثوراو" في مقاله الشهير "العصيان المدني" عام 1849، وكتب مقاله عقب امتناعه عن دفع ضرائب الحرب احتجاجا علي العبودية والقمع والاضطهاد والحرب التي كانت تخوضها الولايات المتحدة ضد المكسيك، ووفقا للكتاب- فان فكرة الامتناع عن دفع الضرائب استعملها آخرون من قبل، بينهم مناهضو الاسترقاق.
ويشير الكتاب الى جذور حرب اللاعنف عبر التاريخ؛ حيث ظهرت نماذج منها ترجع إلي العصر الروماني، ففي عام 494 قبل الميلاد، ثارت الجماهير علي ظلم القناصلة، في حين أنهم لم يلجئوا إلي القتل بهدف رد المظالم، وإنما انسحبوا من المدينة إلي تل سمي بعد ذلك "الجبل المقدس" وظلوا هناك عدة أيام رافضين المشاركة في الحياة المدنية، حتي تم إصلاح الأوضاع والموافقة علي مطالبهم.
وركز الكتاب علي نماذج وتجارب حركات اللاعنف التي ظهرت في القرن العشرين؛ ونجحت في هز الخارطة العالمية ومن بين هذه النماذج التجربة الهندية في مواجهة الاحتلال البريطاني، وأشهر ما في تلك التجربة كانت خطة عام 1930؛ حيث ركز –غاندي- الزعيم الهندي الشهير- في بداية حملته اللاعنيفة علي قانون"الملح" وهو القانون الذي كان يفرض علي الهنود ضرائب باهظة مقابل الملح، كما كان يجعل صناعة وإنتاج الملح حكرا علي حكومة المحتل البريطاني، وانطلق غاندي في مسيرة شهيرة نحو البحر ليستخلص الملح بنفسه، ودعا الشعب ليخرجوا معه ليمارسوا العصيان المدني ويسقطوا قانون الملح، وعقب ذلك قاطع الهنود الملابس الأجنبية، وهجر الطلاب المدارس الحكومية، وتم رفع الأعلام الوطنية، بالإضافة إلي المقاطعة الإجتماعية لموظفي الحكومة، والاضرابات العامة، والاستقالات الجماعية لموظفي الحكومة وأعضاء المجالس التشريعية، والامتناع عن دفع الضرائب، كما قام الثوار بالاحتلال السلمي لمصانع إنتاج الملح ومصادرة ما بها، وكل هذه المظاهر لم تمنع الرد العنيف من قبل سلطات الاحتلال والحكومة التابعة لها، حيث تم علي سبيل المثال اعتقال مائة ألف هندي بينهم 17 ألف امرأة، بخلاف القتل والضرب والقمع، لكن الأمر في النهاية أدي إلي إرهاق الحكومة والمحتل حتي تم الاتفاق علي طلب الهدنة والبدء في مفاوضات مباشرة بين نائب الملكة وغاندي. وكان ذلك شرارة لم تتوقف إلا مع الاستقلال التام للهند عن التاج البريطاني عام 1947.
ويشير الكتاب الى ان الثورة الفلبينية تعد من أشهر النماذج المثالية اللاعنيفة في الربع الأخير من القرن العشرين –فبراير 1986- حيث نجحت في الإطاحة بالديكتاتور "فرديناند ماركوس". موضحا ان الحركات الاحتجاجية تعددت هناك بشكل مستمر من عام 1983 حتي 1985 حيث كانت الجماهير تحتشد متظاهرة في ذكري المناسبات الهامة، مثل بداية فرض الطواريء، وبعد انتخابات مصطنعة ونتائج مزيفة في 7 فبراير 1986 اندلعت الثورة الشعبية وتدفق الآلاف إلي ميدان "ابفاني ودي لوس سانتوس" وأحضروا الطعام والمشروبات وأجهزة الراديو، واتخذ الجميع مظهرا احتفاليا وراح الحشد يغني الأناشيد الوطنية. ومع التهديدات المستمرة لإطلاق النار وفض التظاهرات بقوة، شكلت التعزيزات البشرية حواجز ضخمة حالت دون ذلك، واستمر ذلك حتي انضم 80% من قوات الجيش للمحتجين رافعين عن الديكتاتور الغطاء والحماية.وفي 22 فبراير من نفس العام، اختارت تلك الجموع الثائرة "أكينو" رئيسة للفلبين، في الوقت الذي كان فيه الديكتاتور "ماركوس" يؤدي قسم الرئاسة دون أي تأييد شعبي يذكر. وبناء علي نصيحة أمريكا هرب "ماركوس" إلي قاعدة كلارك الجوية الأمريكية ونجحت الثورة الشعبية بوسائلها اللاعنيفة.
وتعرض الكتاب لتجربة جنوب أفريقيا وهي تجربة ثرية متعددة الأوجه والخبرات في المواجهة اللاعنيفة للتمييز العنصري، استمرت بالعديد من الوسائل طوال الخمسينات من القرن الماضي، ومن أنجح تلك التجارب تجربة مقاطعة الحافلات في الفترة من 1955 حتي 1959، ففي البداية احتج آلاف العمال السود في بلدة "ايفاتون" علي رفع تذاكر ركوب الحافلات، ورفضوا الركوب لدرجة أنهم كانوا يذهبون إلي أعمالهم سيرا علي الأقدام، ورغم المضايقات والاعتقالات التي تعرض لها العمال إلا أنهم في النهاية نجحوا في إعادة الأسعار إلي ما كانت عليه، وشجع هذا النجاح المقاطعات الأخري في جنوب أفريقا علي تبني الحملة نفسها، ونظموا لجانا شعبية لمتابعة هذا الأمر، وشارك في الحملة ما يقرب من 60 آلف عامل، كانوا يذهبون ويعودون من أعمالهم سيرا علي الأقدام، حتي اضطرت الشركة بعد أن رأت أنها تسير حافلاتها فارغة إلي وقف كل خدماتها. وبعد تطور الاحتجاجات انضمت مقاطعات أخري ولقيت الحملة تعاطفا من السكان البيض أنفسهم، حتي أن بعضهم كانوا يتطوعون في توصيل العمال السود في سياراتهم الخاصة، رغم تضييقات الشرطة التي كانت توقف السيارات وتفتشها وتسجل أسماء السائقين. وانتهت المقاطعة عام 1957 بعد أن أحرز العمال نجاحا تاما، فقد تم إلغاء الزيادة في أسعار الركوب، وفي وقت لاحق تمت مضاعفة ضريبة خدمات النقل المفروضة علي أصحاب العمل لدعم وسائل النقل. وساهمت تلك الحركة في خلق مناخ من المقاومة الوطنية، وبروز قادة أكفاء خلال تلك الفترة، فضلا عن إحساس الأفارقة بمزيد من الثقة والفعالية في كفاحهم الوطني.
كما يتناول الكتاب العديد من التجارب والنماذج في هذا الإطار، وفي حين أن لكل تجربة خصوصية تبعا لظروفها، إلا أن تنظيم الاحتجاجات الجماهيرية المجمعة، والرفض التام للانصياع في مؤسسات الحكم المرفوضة، بخلاف الضغط عن طريق المقاطعة الاقتصادية كانت أهم ملامح تلك النماذج. ففي النرويج علي سبيل المثال وأثناء فترة الاحتلال النازي1940-1945، نجح المدرسون في الإصرار علي مواقفهم الرافضة لهذا الاحتلال، وعملوا علي رفض الدعاية النازية في المدارس فضلا عن رفض كل التعليمات الصادرة من جهات غير مختصة، ورغم التعذيب والاعتقالات النازية التي يضرب بها المثل، إلا أن الحاكم النازي أعلن هزيمته أمام صمود حركة المدرسين قائلا:"دمر المدرسون ما كنت أحاول فعله".
ويستعرض الكتاب العناصر الأساسية اللازمة لحروب اللاعنف، ومن بينها، معرفة الدرجة التي يقف عليها الفعل، وهل هو مجرد فعل احتجاجي، أم فعل من أفعال المقاومة، وبين الاحتجاج والمقاومة بونا كبيرا يتوقف علي طبيعة الصراع والخصم، والمهم في هذا أنه من الطبيعي أن تبدأ أي مقاومة كرد فعل علي قضية كبري كالاحتلال مثلا، لكن هل استراتيجيتها المتبعة استباقية أم دفاعية؟، هل يستدرج المجتمع إلي ردود أفعال أم أنه صانع الأفعال، ما هو رصيد النشاط من العمل الاستباقي والاستئثار بعنصر المفاجأة؟ هل هدف العمل ابتداء تسجيل الحضور أم تغيير وضع؟، وهل النشاط سلوك مستمر متصاعد في مسار واضح ينتهي إلي تحقيق هدف المرحلة، أم أنه سلوك عرضي مآله الإذعان لسلطة النظام وضغطه في نهاية المطاف.يؤكد ان الفعل المقاوم يشيّد علي رؤية استراتيجية تحدد مراحله وبدائله.
ومن بين سمات حرب اللاعنف التي يعرض لها الكتاب "الفوز بالطرف الثالث"، ويؤكد أن هذه النوعية من الحروب دائما لا يحسمها أي من طرفي الصراع المباشرين-أي النظام والحركة المقاومة- بل إن عنصر الحسم هو قدرة أحد الطرفين علي الفوز بالطرف الثالث والتأثير فيه، وهذا الطرف هو المجتمع والذي كثيرا ما يتم نعته بالسلبية، أو الذين يوصمون عادة بأنهم قابعين في السبات العميق. وفي هذا تحدٍ لدراسة كيف يعمل العقل الجمعي للجمهور.
ويشير إلي عدد من المفاهيم الخاطئة في هذا الإطار، ويؤكد أنه إذا كان البعض يري أن العنف هو الطريق الأسرع لتحقيق النجاح، وأن الكفاح اللاعنيف يستغرق وقتا أطول، فكلا الاعتقادين غير صحيح علي إطلاقه، حيث أن اللاعنف حقق نجاحات سريعة في أحيان كثيرة؛ ففي خلال شهور تمكن المعلمون النرويجيون عام 1942 من إجهاض أول محاولة لنظام "الكويسلينغ" لإقامة دولة فاشية، وتم طرد ديكتاتورى "سلفادور"و "جواتميالا" في عدة أيام، ونجحت المقاومة الاقتصادية بشكل سريع في تقليل استئجار الأمريكيين من الأصل الأفريقي.
ويقول المؤلفون إذا كان اعتقاد البعض أن اللاعنف يعبر عن الضعف وأنه حيلة العاجز ويعني الانبطاح، فهذا غير صحيح مؤكدا ان فحروب اللاعنف ليست سلبية ولا تتجاهل وجود الصراع، بل تسعي لإيجاد حلول فاعلة وتركز علي تهديد قبضة الديكتاتور علي مصادر القوة، عبر استخدام أسلحتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإعلامية. فهو لا يعني التسامح وإنما هو استراتيجية في إدارة الصراع تتعامل مع الخصم الأقوي، وتسعي للإطاحة به عبر عزل مصادر القوة عنه.