كتب سيد توكل:
دق جرس الهاتف وتنفس "بلحة" الصعداء، أخيرًا.. استدعاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسمح له بزيارة بنيل الرضى وزيارة عتبات البيت الأبيض التي يقدسها العسكر، أعطى اللواء عباس كامل السماعة للسيسي ويداه ترتعش إلا أن الأخير امتقع وجهه وألقاها في حجر "كامل" مرة أخرى وابتلع ريقه بصعوبة قائلا "رد أنت يا عبس المرة دي"!
وضع "عباس" طرف السماعة على أذنه وهو يرتعش، وسمع محدثه من يقول بلكنة أمريكية باردة كالثلج ومتعجرفة كالأومليت: "الآن يمكن للسيسي أن يأتي"، تهلل وجه عباس ومسح السيسي عرق وجهه المنتفخ بالبوتكس، وهو يضحك مرة ويمطر سماعة الهاتف بالقبلات اللزجة، غير مصدق أن "بن سلمان" عفا عنه بعد شفاعة ترامب، وعاد البترول السعودي ودولارات الرز الخليجي إلى مجاري أمعاء العسكر.
وبات واضحًا الآن لماذا لم يُحدد ترامب موعد زيارة "بلحة" إلى واشنطن، إلا بعد انتهاء اللقاء بين الأخير وولي ولي عهد السعودية محمد بن سلمان؟
الدولارات أولاً!
لثوانٍ، قد يبدو السؤال غريباً، والربْطُ فَجَّاً، لكن بمزيد من الهدوء وإعمال الحَاسّة التحليلية، سيتضح جَلِيّاً أنه لم يكن في الإمكان أن يكون رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي أولَ من يلتقي ترامب وجهاً لوجه، رغم أنه كان أول من لهث في الاتصال لتهنئته بفوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، كما ذكرت ورقصت وسائل إعلام الانقلاب.
رسميًا، البيت الأبيض يعلن أن "بلحة" سيلتقي ترامب في البيت الأبيض يوم 3 إبريل المقبل، بدعوة من الأخير، صحيح أن الحديث عن تلك الدعوة تزايد منذ إلحاح "بلحة" على لقاء "ترامب" بعد فوزه بالانتخابات في 9 نوفمبر الماضي، وأدائه اليمين الدستورية وتسلم مهام منصبه رسميًا في 20 يناير، لكن كان هذا الإلحاح مفضوحًا عند الساسة والمحللين من جبهة الشرعية ورفض الانقلاب.
صحيح أيضا أن محمد بن سلمان لم يكن أول مسئول عربي رفيع يزور ترامب، حيث سبقه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، في 30 يناير 2017، لكن زيارة ملك الأردن بدا وكأنها جاءت اضطرارية لأمر ما، سريعة ومقتضبة، والأهم أنها لم تحظ بـ"رُبْع" الترحيب والحفَاوَة التي قُوبِل بها "ابن سلمان" في واشنطن.
تأديب السيسي
في الكواليس طلب "بن سلمان" من ترامب تأديب بلحة، باعتبار أن أي رئيس أمريكي هو في حقيقة الأمر من يسير أمور الانقلاب، ويضع له خطوط السياسة الخارجية مع دول الجوار، لأنها معادلة دولية لا يصح أن يشذ عنها أحد مكوناتها حتى ولو كان مجرد تابع قام بانقلاب على رئيسه المنتخب في 30 يونيو 2013.
المقابل السعودي أمام عدد من الملفات ومنها تأديب "بلحة"، تمثل في موافقة الرياض على الإجراءات "العنصرية" التي اتخذها ترامب بمنع دخول المهاجرين من 6 دول عربية إسلامية إلى الولايات المتحدة، بل تفهمها، علاوةً على الإعلان عن شراكة اقتصادية جديدة في عدة قطاعات حيوية، بقيمة استثمارات مشتركة تبلغ 200 مليار دولار.
وحتى تتجنب الرياض نباح رئيس الانقلاب مستقبلاً، خاطبت السعودية من يمسك بسلسلة طوق العسكر السيد "ترامب"، خاطبته من حيث يفهم ويحب أن يفهم، دعم معنوي وسياسي واقتصادي هائلٌ، وهو ما أطرب المبدأ الـ"ترامبي"، "المال مقابل الحماية من نباح السيسي"، وعلى وقع هذا الطّرب ساعد هذا الاتفاق على ركل بلحة بقدم بن سلمان، طالما استمرت الأموال السعودية تتدفّق على ترامب.
هل فهم السيسي الرسالة؟
رتب ترامب أولوياته مع "بن سلمان" في الفترة المقبلة، وأهمها أن السعودية هي كبيرة العرب وان مصر مجرد "شبه دولة" يسيطر عليها قطيع من بيادات الانقلاب لا هم لهم إلا نهب أكبر قدر ممكن من الدولارات، وهكذا تراجعت مكانة مصر تاريخياً وجغرافياً، بعدما ظلت في قمة أولويات الإدارات الأمريكية السابقة.
تراجعت القاهرة وتقدمت الرياض وتغيرت معادلة المنطقة، والنفوذ السياسي عند "ترامب" أصبح مرتبط بالقدرات الاقتصادية، والسيسي أضعف مصر للغاية وهدم وخرب اقتصادها؛ وبالتالي فإن التقارب "الكيميائي" الذي تحدث عنه ترامب بعد لقائه السابق ببلحة أصبح حبرا على ورق، لأنه ووفق أسلوب ترامب المال قبل الكميا!
في تقدير عدد من المراقبين أن عقل السيسي محدود الذكاء ربما لم يفهم رسالة ولي الأمر، وهو ما سوف يجعله يتخبط في التعامل مع مُقتضاها خلال الفترة المقبلة، لكن "بلحة" مضطر للتأقلم مع الأوضاع الجديدة، رغم جشعه الذي أرهق السعودية والخليج، خلال الفترة الماضية، وعليه أن يراعي سلّم السيادة في المنطقة الذي وضعه ترامب، السعودية أولا؛ وبالتالي لن يخرج السيسي عن النّصّ مُجدّداً، أو هكذا يُفترَض به أن يَفعل.
ويعتقد المراقبون أن زيارة بن سلمان التي سبقت زيارة السيسي رئيس الانقلاب، قد رسمت لـ "ترامب" أُفُق العلاقة مع السيسي، وهو ما سيمليه ترامب بدوره على أذن السيسي، وسيأمره بعدم النباح مُجدّداً على السعودية.
السيسي كف عن النباح
وإذا كان السيسي جاء على جناح كيان الاحتلال الصهيوني ليدخل قلْب ترامب من أوسع أبوابه، فإن العلاقات الحالية بين أمريكا والرياض تطورت كثيرا خلال الفترة الماضية لدرجة وصلت إلى بداية صياغة تحالف حقيقي بينهما ضد حليفة السيسي "إيران".
التحالف ضد إيران، تحوّل إلى حالة استطاعت السعودية فرضها، خلال الأسابيع الأخيرة، شرقاً وغرباً، وتبلْورت الأمور في واشنطن بعد الإعلان عن توافق أمريكي سعودي على كَبْح جِمَاح طهران؛ وبالتالي فإن على السيسي أن يكف عن النباح ويضع ذيله بين رجليه ويعود إلى بيت الطاعة، وهو ما ظهر خلال الأيام الماضية بتصعيد إعلام الانقلاب لهجته تجاه إيران.
وبات السؤال الأهم، ماذا سيفعل "بلحة" في الملف السوري، وهو الذي نفخ صدره وتظاهر بأنه شجيع السيما وجاهر بدعمه لعدو الثورة في دمشق "بشار الأسد"، تحت دعوى دعم الدولة والجيوش الوطنية ضد الثورات؟
كالعادة سيتخلى السيسي عن نفخة العسكر الكدابة وسيعود إلى الحظيرة الأمريكية، بعدما أكد مسئولون غير رسميين وإعلاميون سعوديون بعد زيارة بن سلمان لواشنطن، بأن الزيارة لن تكون في صالح تحالف بشار والسيسي، والجديد هذه المرة أن ثمَّة توافقاً سعودياً أمريكياً تركياً حول شيء ما في سوريا، وعلى السيسي أيضا أن يكف عن النباح طمعاً في العضمة السعودية التي ألقتها له شركة أرامكو.
من الواضح أن السعودية بأموالها وثقلها الاقتصادي ستُرَاقب نباح السيسي جيداً، فيما يتعلق بالملفين السوري واليمني، لا سيما أنهما كانا أكبر أسباب غضب الرياض وبداية الأزمة مع جنرالات الانقلاب، ترامب الآن سيُراقِب السيسي وينظر إليه بعَيْن "الدولارات".
الأمر الأخير أن بلحة يخشى ان ينتقل غضب الرياض إلى واشنطن ويتم استبدال السيسي بغيره من داخل الجيش، فكما قال الرئيس المنتخب محمد مرسي "السحرة كتير"، وهناك المئات أمثال السيسي مستعدون للخدمة والانقلاب على الانقلاب، ولم يَعُد أمام "بلحة" مساحة للنباح مجدداً، على الأقل حتى تمر انتخابات الرئاسة القادمة في 2018 مرور الكرام، ولا يقفز على ظهره جنرال مثل شفيق أو عنان أو حتى مرشده الروحي المشير طنطاوي، خاصة أنه يعلم جيداً أن رز الخليج سيكون له الكلمة الفصل في بقائه في القصر الجمهوري، وواشنطن في النهاية لن تُمانِع باستبدال بلحة ببيادة جديدة، طالما أن مَن سيَخلُفه سيكون أكثر إخلاصا لواشنطن وتل أبيب وأقل نباحاً وإزعاجا للخليج.