كتب سيد توكل:
إذا كنت ممن يكره أن يُصدم بالحقائق التي لا تدع مجالا للشك أو يخاف أن تتعرض قناعاته الراسخة للاهتزاز فلا تقرأ هذا التحليل، وإذا قررت أن تقدم على تلك المغامرة فعليك أيضا أن تتخلى عن النظرة السطحية حيث إن المواقف السياسية مركبة وشديدة التعقيد، يكفيك أن تعلم أن الجنرال السفيه "بلحة" على وشك أن يحجّ إلى البيت الأبيض، ويقدّم قرابين الطاعة والخضوع، ويقسم أنه سيذبح ثورة 25 يناير.
بعد فوز الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب الشتاء الماضي، تزاحم الملوك والرؤساء العرب أمام عتبات البيت الأبيض، يعرضون عليه ولائهم وخيرات بلادهم ويضعون تحت أقدامه مستقبل أوطانهم، حتى يرضى، وأصبح المراقبون والسياسيون على يقين من أن حكاماً من العرب يؤمنون بربهم "أمريكا" حق الإيمان، ويطيعونها لا يشركون به شيئاً.
حج ملوك ورؤساء العرب إلى البيت الأبيض، ليس مجرد لحظات دبلوماسية ولقطات تلتقطها الكاميرات فحسب، فبين العسكر في مصر على سبيل المثال وأمريكا تاريخ طويل من الانبطاح، مر بمنحنيات عده صعودًا وهبوطًا على مدار الـ60 عامًا الماضية، هذا التاريخ يمكنك إدراكه بنظرة عابرة على زيارات جنرالات العسكر لأمريكا منذ 23 يوليو 1952 حتى انقلاب 30 يونيو 2013.
لم تعد أمريكا هي التي تسعى وتشقى وتبذل كل الجهود، لاسترضاء العرب، لتكسب صداقتهم وتحالفهم، لكن الذي يحدث هو العكس، إذ يسعى ملوك وحكام وأمراء وجنرالات العرب، لاسترضاء أمريكا، وطلب الرضا السامي، والحج موسمياً إلى البيت الأبيض، بينما ساكنه يترفع ويتعالى، يرفض طلب الزيارة ومسعى الحج أحياناً، ويتمنع ويتباطأ في الموافقة والاستقبال أحياناً أخرى… وفي الحالين هو صاحب الأمر والنهي، المعتلي وحده عرش الاستعلاء والاستغناء.
هل حج عبدالناصر؟
الصحفي والكاتب الراحل "محمد جلال كشك"، أكد ذلك في كتابه "ثورة يوليو الأمريكية"، وكشف أن جمال عبد الناصر كان انبطاحيًّا حتى النخاع على عكس ما يروّج له الإعلام؛ وكشف ما جرّه علينا انقلاب 23 يوليو من مآس بحق المصريين والأمة العربية والإسلامية.
ينطلق جلال كشك لتبيان هذا من خلال شرح وتوضيح علاقة جمال عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية، التي تسلم منها ملابس الإحرام
وكتيب يشرح مناسك الحج للبيت الأبيض، هذه الشعائر التي بدأت قبل الثورة واستمرت لعام 1965، وكانت هي المحرك الرئيسي للقيام بحركة تقضي على حالة التحرر الوطني التي عاشتها البلاد، وتكفل انتقالا هادئا للسلطة من الاستعمار البريطاني إلى الاستعمار الأمريكي في إطار لعبة الأمم.
"مرسي" كان استثناء!
فور قيام ثورة 25 يناير 2011 تحول موقف واشنطن حيث تخلى البيت الأبيض عن حليفه مبارك، وقاطع الرئيس المنتخب محمد مرسى طقوس زيارة واشنطن، إلا أنه حضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وشدد في كلمته على سيادة مصر واستقلالها عن رب البيت الأبيض، وهو ما أغضب كهنة واشنطن، وعجل بتدبير انقلاب 30 يونيو 2013.
والمتابع جيداً لزيارات السفيه "السيسي" لأمريكا قبل وبعد انتخاب ترامب، يجد أن جنرالات الانقلاب بوجه عام ومنذ يوليو 1952 يؤمنون بإله واحد هو ربهم الذي في البيت الأبيض الأمريكي، هو في عقيدتهم العسكرية المانح المعز المذل، فتراهم يعتقدون أن القابع في البيت الأبيض، هو الوحيد الذي يملك آجالهم وأرواحهم وأرزاقهم وأقدارهم.
يخشى الجنرال السفيه "بلحة" أن يغدر به ربه الذي في البيت الأبيض، ويؤيد انقلابا جديداً ضده من داخل الجيش، ويشعر بان ترامب هو الذي يحول بينهم وبين ملك الموت، هو الحافظ لكرسي العرش فيه وفي أبنائه وأبناء أبنائه ميراثاً موروثاً.
الجنرال "السفيه" الذي قاد انقلابا على الرئيس المنتخب محمد مرسي، لا يأمن شعب يلعنه ويلعن يوم التفويض والرقص أمام اللجان، ويؤمن "السفيه" بأن ربه الذي في البيت الأبيض هو الرازق المالك لمفاتيح البنوك الغربية والأمريكية التي تحوي ما نهبه العسكر من ثروات الشعوب، إن رضي عنه ربه تركها له كما فعل مع المخلوع مبارك، وإن غضب عليه أصدر قرارات التجميد والمصادرة فحرمها عليه وحرمه منها.
عقيدة عسكر الانقلاب تجاه الحج إلى البيت الأبيض، جعلتهم لا يفكرون فيما تصدره ألسنتهم، فيقولون بلا استحياء :".. ومن يقدر على أمريكا"، وهم بأقوالهم هذه يؤكدون أنهم يملكون ولا يحكمون، فلو جاءت أمريكا لتخوض في حرمات أوطانهم ما ردوها.
زمن الهرولة
ليس الجنرال السفيه "بلحة" وحده الذي أحرم وقطع تذكرة للحج إلى واشنطن، فلقد سبقه إليها ملوك وأمراء خليجيون، لم يعتبروا بسنوات قضاها المخلوع مبارك في الحج إلى واشنطن، وعندما ثار الشعب ضده في 25 يناير كانت الولايات المتحدة أول من تخلت عنه ليدخل تصريح الرئيس أوباما الشهير "ارحل الآن وليس غدا" التاريخ، لأنه قد آن التخلص من أحد الحجاج العرب، بعدما انتهى انبطاحه ولم يعد صالحًا للاستهلاك الصهيوأمريكي، لتراهن أمريكا علي من يأتي بعده من الحجاج العرب.
وراهن مؤيدو الانقلاب ألا يستبق الجنرال السفيه "بلحة" بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، لأن كل جراح مصر طوال السنوات الماضية كانت أمريكية الصنع، ولو طال الزمن بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي لكان لزاما أن يأتي الرئيس ترامب لمصر، لأن الواقع ينطق بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تحتاج لمصر وما المعونة الأمريكية إلا أكذوبة كبري أدركها الشعب.
لقد رفض الرئيس مرسي الحج إلى واشنطن كعادة مشركي العرب، وخاطب الغرب بلغته التي يفهمها، وفعل علاقات مصر مع محيطها العربي والإسلامي والدولي، من الصين إلى روسيا وتركيا والهند وفنزويلا، وكان من المحتمل أن يتوسع ويستمر ذلك التوجه لأنه الأقرب إلي التوجه المصري القائم علي عدم الانحياز، تزامنا مع صون المصالح في ظل حروب شرسة لأجل هدم مصر.
لواشنطن ماض أسود بغيض سيظل عالقاً في ذاكرة المصريين، لم تستفد مصر على عكس ما يروج من مناسك حج جنرالاتها إلى البيت الأبيض، وكانت مقولة الرئيس السادات الشهيرة القائلة بأن كل أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة طامة كبري، لأنها تتحكم في الأمور من منطلق الإيذاء بعيد المدي وصولا لدعم أزلي لإسرائيل يتزامن مع كسر شوكة العرب وفي المقدمة مصر.
عقيدة جنرالات الانقلاب الإيمان بالرب الذي في البيت الأبيض، هي التي جعلتهم يخرون ساجدين في "كامب ديفيد" مقبلين لكل العتبات المقدسة في واشنطن، وما أسعد إعلام الانقلاب عندما يهاتف ربهم السفيه "بلحة"، إنهم يقطعون إرسال تلفازهم ليزفوا للشعب النبأ العظيم والحدث الجليل، يرقصون فرحاً، فها هو ربهم ترامب قد أنعم على عبده السفيه "السيسي" وأذن له بالزيارة!