فيديو.. التجارة بالدين.. “دليفري” في برلمان العسكر!

- ‎فيأخبار

كتب – أسامة حمدان:

في عام 2012 دخل أحد السياسيين الأستوديو تحت وهج الإضاءة وأخذ مقعد الضيف أمام مذيع الحلقة، الذي ربما كان تامر أمين أو الإبراشي أو الشيطان ذاته..لا يهم، المهم انه تبتسم عندما ذكره المذيع بالهدف الذي حضر من أجله، وهو اتهام الإخوان بـ"التجارة بالدين"!

ظل صاحبنا يتحدث ساعة كاملة بكل حماس عن الإخوان تجار الدين، الذين يستغلون تدين المصريين "الفطري" للوصول إلى السلطة، وتحقيق غايتهم "الشريرة"، استمر الفحيح والعواء حتى انتهت الحلقة، وقبض المظروف المالي المنتفخ ودسه بسعادة في جيب الجاكت.
وفي عام 2015 دخل نفس السياسي نفس الأستوديو، وأمام نفس المذيع وبكل هدوء وأريحية ظل يعدد مزايا برلمان العسكر القادم، وانه منحة من الله القدير على أهل مصر، وانه يتعين على شيوخ الأزهر والكنيسة حشد أتباع "الديانتين" لأجل المشاركة في تلك الانتخابات، التي يأثم تاركها ويثاب المشارك فيها!

الأمر نفسه أكده الدكتور أحمد عمر هاشم، خلال مؤتمر قائمة "في حب مصر" بالصف، في خطبة الجمعة الماضية، عندما قال من فوق المنبر إن ندوات قائمة "في حب مصر" تحيط بها الملائكة، وطالب المصلين بضرورة المشاركة في الانتخابات البرلمانية لاستكمال مؤسسات الدولة والنهوض بالمجتمع إلى بر الأمان وضرورة انتخاب القائمة التي تتغشاها الرحمة وتحفها الملائكة وتنزل عليها السكينة!

"التجارة بالدين".. أحد أبرز الادعاءات الباطلة التي طالما حاول الليبراليون والعلمانيون إلصاقها بالتيار الإسلامي، بإيعاز من العسكر، في محاولة لتبرير فشلهم وإخفاقاتهم السياسية المتتالية في أي تنافس سيأسى أو استحقاق انتخابي يجمعهم بالإسلاميين، وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع هؤلاء الانقلابيون أن يكشفوا عن قدرتهم على المتاجرة بكل شيء لخدمة أطماعهم السياسية وتطلعاتهم للسلطة بأي وسيلة، وعلى رأسها "التجارة بالدين".

لا يمكن أن يسقط من ذاكرتك عزيزي القارئ، القيادات الدينية في المشهد الانقلابي بجوار قائد النكسة عبد الفتاح السيسي، وهو يتلو بيان الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسى، كغطاء ديني، ومحاولة لإيهام الشعب بمباركة المؤسسات الدينية لما أسموه كذبًا بثورة 30 يونيو، فلم تكن مشاركة شيخ الأزهر والكنيسة إلا تجارة بالدين، ورفض منذ البداية لثورة الـ25 من يناير التي أطاحت بالمخلوع حسنى مبارك ورموز نظامه البائد.

إزاء ذلك رفض الكثيرون من مشايخ الأزهر هذه التجارة الشيطانية، وأعلنوا انضمامهم لاعتصام ميدان رابعة العدوية وقتل منهم 34 عالمًا أزهريًا يوم فض الاعتصام، وفي أثناء ذلك تم تدشين حركة "مسيحيون ضد الانقلاب" التي تضم الآلاف من المسحيين الرافضين للانقلاب والرافضين لمواقف الكنيسة الأنبا تواضروس، التي وصفوها بالمخزية بعد تأييده تدخل العسكر في السياسة.

القارئ الجيد للمشهد الانقلابي يستطيع أن يلمس أن العسكر لهم تاريخ طويل في "التجارة بالدين"، ومشايخ وقساوسة العسكر أهم أدواتهم، الذين واصلوا تجارتهم بالدين عبر فتاوى أعطت الضوء الأخضر لقتل الآلاف من معارضي الانقلاب الدموي، واعتبارهم خوارج دمائهم مهدرة، وانتهاءً بفتاوى "نعم" لدستور الانقلاب الذي يرفضه السيسي اليوم، ووصف من يستفتى بـ" لا" بأنه آثم ومذنب!

من فضلك لا تنسَ عزيزي القارئ أنه خرج من مقر الشئون المعنوية للقوات المسلحة، ثلاث فتاوى لكل من على جمعة المفتى السابق، الذي أفتى بأن معارضي الانقلاب خوارج، وأمر الجنود بقتلهم إن وجدوهم. ومن بعده أتى سالم عبد الجليل، وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، ليفتى من نفس المكان أن معارضي الانقلاب ومن يدعون بأن ما قام في 30 يونيو انقلابا وليس ثورة هم دعاة فتنة، وأن الجنود لا ذنب عليهم في قتلهم طالما وجدوا منهم خطرًا يهدد سلامتهم وسلامة المنشآت العامة.

أما الثالث فهو عمر خالد، الذي حث الجنود على المواجهة المسلحة لكل من يخرج على قانون الدولة، مفتيًا بأن هذه المواجهة هي طاعة لله ورسوله قبل أن تكون طاعة لقيادات الجيش.

وها هم الانقلابيون يستكملون ما بدؤه من تجارة بالدين من خلال الفتاوى؛ حيث يروجون اليوم عن طريق مشايخ العسكر فتاوى جديدة تلحق الإثم والمعصية بمن يقاطع انتخابات برلمان العسكر، وأن المشاركة والتصويت واجبا دينيا ومرضاة لله.

وفي ثلاث نقاط نحاول كشف صواب وخطأ تلك العبارة:

أولا: مبدأ "التجارة بالدين"، إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح، يحمل أحد وجهين، واحد سلبي والآخر إيجابي.

الوجه السلبي: وهو أن يتظاهر الشخص بالتدين وطاعة الله ليكسب تأييد الناس بهدف تحقيق أهداف ليس لها علاقة بما يدعو الناس إليه، وهذا النموذج موجود في كل الشرائع، فالعالم السلطان الذي يفتي حسب هوى الحاكم وبما يخدم مصالحه يتاجر بالدين، كذلك القسيس والحاخام اليهودي، وبعض الرهبان يستغلون منصبهم الديني مثلا في قضية الطلاق لتحقيق مبالغ مالية طائلة، وهكذا نرى الوجه السلبي للتجارة بالدين في كل الشرائع.

أما الوجه الإيجابي: لمصطلح التجارة بالدين أو بتعبير أدق "في الدين" فقد أشار إليه ربنا في سورة الصف حين قال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، إذا كان هذا الثمن ، فإن المقابل: {يغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. سماها ربنا "تجارة"، ومن ثم فإن مفهوم التجارة في الدين أو مع الله موجود ولكن بالشكل الذي بينته الآية.

ثانيا: العمل بالسياسة يعد واحدًا من أهم أسباب اتهام المنتمين للحركة الإسلامية بـ"التجارة بالدين"، وهذا في الحقيقة يعود إلى قصور شديد في أفهام من يتهمهم أو سوء طويته، واخترعوا لذلك عنوانا مضللا سموه: الإسلام السياسي، وكأن هناك إسلامًا سياسيًّا وآخر اقتصاديًّا وثالثًا اجتماعيًّا.

لقد اجتمع فهم علماء الأمة أن الدين الإسلامي شامل كامل، لا يجوز تبعيضه أو تجزئته، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} والسلم هنا هو الإسلام، فلا يجوز بحال القول بفصل الدين عن السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غيرها من مجالات الحياة.

ومن ثم فإن القول بضرورة تنزيه الدين عن المشاركة السياسية، هو قول بهتان وزور لا يريد به العسكر وشركاؤهم إلا اتباع هواهم، فإن الدين عقيدة وشريعة، والشريعة إنما تشمل كافة جوانب حياة الإنسان، والسياسة جزء منها.

ثالثا: ينزعج أهل الانقلاب حينما يربط الإسلاميون بين الجهاد في سبيل الله، والأعمال السياسية مثل المشاركة في العملية الانتخابية، أو الخروج في تظاهرة سلمية رافضة الانقلاب العسكري، ويبلغ انزعاجهم مداه حين يسمعون أحدهم يقول: "أنا أفعل ذلك في سبيل الله".

وهذا أيضا راجع لفقر شديد في الثقافة الدينية، بسبب تجفيف وتسلط العسكر على مناهج الدراسة والثقافة، الذي اجتهد بشدة في تصدير إسلام قليل الدسم.. أو قل عليه إسلام ترضى عنه أمريكا، فيما يقول رب العالمين: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.

خلاصة القول إن الإسلاميين بالفعل يتاجرون في الدين وليس بالدين، في أعمال حياتهم المختلفة، مثل اختيار نواب مجلس البرلمان أو رئيس للدولة، وهم لا يطالبون الجميع أن يتطابقوا معهم في فهمهم لعبارة "التجارة في الدين"، ولكن نظرة إنصاف تساعدنا على الأقل أن نفهم لماذا نحن مختلفون!