“الغاطس” في معركة قانون الإجراءات الجنائية بمصر

- ‎فيمقالات

 

بقلم//قطب العربي

 

 

يقال: إن “الغاطس في السياسة أضعاف أضعاف الظاهر منها، ينطبق هذا على أزمة قانون الإجراءات الجنائية في مصر، والتي بدت في ظاهرها معركة قانونية بين لجنة تشريعية تريد فرض المزيد من القيود دعما لسلطة أتت بها، ومنظمات نقابية وحقوقية وسياسية ترفض هذه القيود انتصارا لحرية تؤمن بها وتدافع عنها، لكن هذا جانب واحد من الصورة التي لها جوانب أخرى كثيرة غاطسة”.

بعيدا عن جدل النصوص وتعقيداتها، ومدى مخالفتها للدستور، والذي تكفلت به نقابتا الصحفيين والمحامين، وعدد من المنظمات الحقوقية، وأساتذة القانون، فإن من المهم التعامل مع هذه الأزمة باعتبارها معركة سياسية قبل أن تكون قانونية، ذلك أنها تعكس إرادة سلطوية في استمرار القمع، وتقنينه، حتى وإن حاولت تغليف ذلك ببعض الإصلاحات الجزئية؛ مثل تخفيف قيود الحبس الاحتياطي التي تدرك أنها ستفرغها من مضمونها عند التنفيذ، كما فعلت ولا تزال تفعل مع القانون الحالي الذي يجعل المدة القصوى للحبس الاحتياطي سنتين في القضايا الكبرى، ومع ذلك هناك آلاف المحبوسين احتياطيا قضوا ضعف هذه المدة دون أن يروا النور، بل لفقت لهم قضايا جديدة من داخل محابسهم، وهو ما يتوقع أن يحصل مجددا بعد تعديل القانون، و”كأنك يا أبو زيد ما غزيت”.

 

من المهم التعامل مع هذه الأزمة باعتبارها معركة سياسية قبل أن تكون قانونية، ذلك أنها تعكس إرادة سلطوية في استمرار القمع، وتقنينه، حتى وإن حاولت تغليف ذلك ببعض الإصلاحات الجزئية؛ مثل تخفيف قيود الحبس الاحتياطي التي تدرك أنها ستفرغها من مضمونها عند التنفيذالمعركة الجديدة حول التعديلات المقترحة لقانون الإجراءات الجنائية تبرز خطرا حقيقيا لا يقتصر على الصحفيين أو المحامين أو الحقوقيين، بل يشمل عموم الشعب، ففي ظل حالة القمع والتخويف التي فرضها النظام على المصريين حتى لا يفكروا في الثورة ضده، فإن كل مواطن أصبح “مشروع متهم”، وقد تعززت هذه الفكرة لدى المواطنين مع استمرار القبض العشوائي عن الناس من الشوارع، وتوجيه اتهامات لهم لا علاقة لهم بها، بل لا يسمعون عنها إلا في وسائل الإعلام، مثل التجمهر، وتكدير الرأي العام، ودعم جماعة إرهابية، إن لم يكن الانتماء للجماعة ذاتها بشكل واضح. ويدخل المواطن في الثقب الأسود، بين حبس احتياطي على ذمة تلك الاتهامات التي لا يستطيع لها صدا، ثم تجديد متوالٍ لهذا الحبس تجاوزا للمدد القانونية، ثم يجد نفسه متهما في قضية جديدة ليبدأ دورة حبس احتياطي جديد بسببها.

 

هذه الأخبار يتم تناقلها بين المواطنين فيشعرون جميعا بالخوف من المصير ذاته، ومن هنا فإن مواجهة التعديلات الجديدة لقانون الإجراءات الجنائية تمثل الحد الأدنى من الطمأنة لهم، ذلك أنهم إذا لم يستطيعوا تجنب الاعتقال فعلى الأقل يمكنهم الدفاع عن أنفسهم، سواء أثناء مرحلة التحقيق أو في مرحلة التقاضي، وسواء بشكل مباشر أو عبر محاميهم، وهو ما تريد التعديلات الجديدة حرمانهم منه.

 

التعديلات الجديدة يجري طبخها منذ عامين في الخفاء في مطبخ إحدى الجهات الأمنية، ولأنها صعبة المضغ والهضم فقد تم الاحتيال على ذلك بوضع بعض البهارات عليها، وهي تخفيف قيود الحبس الاحتياطي، وتم إخراج تلك البهارات من مطبخ جهة أمنية أخرى، وكلتاهما جزء من النظام الحاكم وتعملان لصالح استمراره كلا حسب رؤيته وتقديره، ثم تم استدعاء مجموعة الحوار الوطني في جلستين استثنائيتين لتقديم بعض التوصيات بخصوص الحبس الاحتياطي، وقدمت المجموعة توصيات معقولة نظريا، وتم الدفع بها إلى اللجنة التشريعية في مجلس النواب لتزيين قانونها الجديد، وليس معلوما حتى الآن إن كانت قد أخذت بالتوصيات الواردة جميعا أو جزء منها، لكن هذه البهارات لم تفلح في تحسين طعم المنتج الذي ظل مرا، وعصيا على المضغ والهضم، فانبرى لهذه التعديلات من لم يستسيغوها، والذين شعروا بخطورتها.

 

نحن هنا أمام جهتين أو جهازين أمنيين يديران الأمور من خلف الستار (في الغاطس)، يتبنى أولهما منهج التشدد والتقييد وهو جهاز الأمن الوطني، انطلاقا من رؤيته الأمنية المتشددة، والتي ترى أن أي تنفيس سياسي سيفجر ثورة لا تحمد عقباها، ولا يستطيع الجهاز كبحها، في المقابل يتبنى جهاز المخابرات فكرة التنفيس الجزئي الكفيل بإطالة عمر النظام. كلتا النظريتين تنطلقان من نموذج واحد، وهو حكم مبارك الذي سمح بقدر من التنفيس فتسبب ذلك في الثورة عليه وفقا لنظرية الأمن الوطني، والذي سمح بقدر من التنفيس فنجح في إطالة عمره لمدة ثلاثين عاما وفقا لرؤية المخابرات.

نحن هنا أمام جهتين أو جهازين أمنيين يديران الأمور من خلف الستار (في الغاطس)، يتبنى أولهما منهج التشدد والتقييد وهو جهاز الأمن الوطني، انطلاقا من رؤيته الأمنية المتشددة، والتي ترى أن أي تنفيس سياسي سيفجر ثورة لا تحمد عقباها، ولا يستطيع الجهاز كبحها، في المقابل يتبنى جهاز المخابرات فكرة التنفيس الجزئي الكفيل بإطالة عمر النظام

ضمن هذا التجاذب (الغاطس) جرت وقائع معركة قانون الإجراءات الجنائية، الذي انتهت اللجنة التشريعية من مناقشته، وأحالته للبرلمان لمناقشته في جلساته العامة، لم تكتف اللجنة بتمرير المشروع بأقل قدر من التحسينات التي تمسكت بها نقابتا المحامين والصحفيين، والمنظمات الحقوقية، لكنها أصدرت بيانا شديد اللهجة ضد المعترضين على التعديلات، وركزت هجومها على نقيب الصحفيين خالد البلشي، رغم أنه لم يكن المعترض الوحيد.

 

هنا نستدعي “ما وراء الأكمة” لتفسير ما جرى، فالقانون يقف خلفه جهاز الأمن الوطني المختص أساسا بتعقب والقبض على المعارضين السياسيين، ويريد بالتالي إطلاق يده في هذا الأمر، وإزالة أي عوائق أمامه، مثل ضرورة وجود إذن بالتفتيش، أو إتمام القبض والتفتيش في حضور النيابة.. إلخ، وقد دفع هذا الجهاز رجاله في البرلمان لتبني المشروع والدفاع عن التعديلات المقترحة، وليس خافيا أن هذا البرلمان في معظمه تم تشكيله في مكاتب جهاز الأمن الوطني الذي حدد نسب وأسماء الفائزين قبل استكمال الشكل الديكوري عبر الانتخابات التي لم يكن لها أي قيمة، ويدرك النواب -الذين احتلوا مقاعدهم بناء على هذه الترشيحات الأمنية- طبيعة الدور والمهام المطلوبة منهم، كما يدركون تبعات الفشل في تلك المهام، لذا فإنهم “يستقتلون” في تمرير ما يطلب منهم.

 

في المقابل، يرى الجهاز الآخر (لمخابرات) أن هذه التعديلات ستزيد الغليان والاحتقان الشعبي، وبالتالي فمن الضروري تحسينها بالقدر الذي يسمح بهضمها، ومن هنا فإن هذا الجهاز بادر باستدعاء الحوار الوطني لتقديم توصيات خاصة بالحبس الاحتياطي.

 

من خلال هذا “الغاطس” أيضا ندرك الجهة الأصلية التي أعطت الضوء الأخضر، وربما التوجيهات المباشرة لتوجيه وتركيز الهجوم ضد نقيب الصحفيين خالد البلشي، بسبب موقفه القوي في رفض التعديلات، وربما ظنت هذه الجهة (الأمن الوطني) أن البلشي يمكن أن يكون لقمة سائغة، كونه معارضا يساريا يسهل تصنيفه خطرا على الأمن القومي والسلم الأهلي، وفقا للوصفة الأمنية المكرورة، لكن المفاجأة كانت هي التفاف واسع خلف البلشي، شمل كل ألوان الطيف الصحفي والسياسي بمن في ذلك صحفيون وإعلاميون كبار يعملون في مواقع بارزة في الشركة المتحدة.

 

لقد انقلب السحر على الساحر إذن، فاضطرت السلطة في مستوياتها العليا للتدخل لتهدئة الاحتقان مرحليا عبر بيان لمجلس النواب، أكد فيه استمرار الحوار حول التعديلات، مرحّبا بأي ملاحظات عليها، فيما بدا أنه اعتذار ضمني عن بيان اللجنة التشريعية، وهجومها ضد البلشي.

 

نقابة الصحفيين وعبر نقيبها خالد البلشي اختارت الموقف الصحيح الذي يليق بها، دفاعا عن أعضائها الذين “يجرجرون” من نيابة إلى أخرى، ومن سجن إلى آخر، كما أنها واصلت دورها الوطني في الدفاع عن حرية الشعب المصري كله، والذي ذكرت من قبل أن كل فرد فيه هو “مشروع متهم” في الوقت الحالي، والنقابة تفعل ذلك كونها نقابة رأي بالأساس، ولطالما تبنت قضايا الحريات بشكل عام، والنقابة تستطيع القيام بهذا الدور حين تتحرر من قيود السلطة ولو جزئيا، وحين يكون على رأسها شخصية ذات تاريخ نضالي معروف، وليس من السهل تدجينه وترويضه، وقد خرجت النقابة من حالة الموات والأكفان التي فرضها عليها النقيب السابق ضياء رشوان عقب انتخاب البلشي ونصف المجلس، وها هي تستعيد زمام المبادرة دفاعا عن الحريات العامة، ويبقى أن تلحقها بقية النقابات المهنية والعمالية فالقانون سيطبق على جميع أعضائها أيضا.