في الوقت الذي بلع فيه كثير من القادة العرب والحكام لسانهم إزاء البلطجة الأمريكية الصهيونية بشأن القضية الفلسطينية، في الوقت الراهن، خاصة منذ إعلان ترامب عن أن القدس عاصمة لإسرائيل، ثم تلاحق ذلك بمؤامرات نظام عبد الفتاح السيسي ونظام بن سلمان بالسعودية وعيال زايد لتمرير صفقة القرن، القاضية بتسليم أراضي سيناء للفلسطينيين لتفريغ الأراضي الفلسطينية من أهاليها، وإنهاء أزمة لجوء 6 ملايين فلسطيني في المهجر بإلغاء حقهم التاريخي المقدس بالعودة لأراضيهم، في ذات الوقت برز دور كبير لتركيا إزاء القضية الفلسطينية، كان آخرها تسيير قوافل الإغاثة وسفن الحرية نحو فلسطين لكسر الحصار الصهيوني عليها.
وأدى نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب للقدس في 14 مايو– وفقا لقرار الرئيس دونالد ترامب المثير للجدل قبل خمسة أشهر، والذي تزامن مع إحياء ذكرى الفلسطينيين لحزنهم الوطني النابع من خلق إسرائيل وكذلك مع بداية شهر رمضان- إلى مظاهرات حاشدة قام بها فلسطينيون على السياج الحدودي لغزة واستشهاد العشرات من الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، زاد التوتر بين تركيا والولايات المتحدة، حيث بدأ الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي كان في طليعة معارضة إعلان ترامب في 6 ديسمبر، في حشد وتوجيه الاستجابة من العالم الإسلامي والمجتمع الدولي، ليس فقط ضد إسرائيل ولكن أيضا الولايات المتحدة.
وكان أردوغان قد كرر اعتراضه على تحرك ترامب على شبكة “سي إن إن” الدولية يوم 8 مايو، ووصفه بأنه “خطأ فادح” يجب على الولايات المتحدة التراجع؛ عنه لأنه “لم يكسب شيئا” من ذلك.
في 13 مايو، سخر أردوغان من الولايات المتحدة وقدرتها على الحصول على الدعم في الأمم المتحدة من “سبعة أو ثمانية بلدان صغيرة لا يمكن العثور عليها على الخريطة”، وموقفها ضد الدول الـ128 التي عارضت ذلك، على الرغم من “كثرة الاتصالات والعروض المالية التي لا حصر لها. وحذر من أنه “من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإن الولايات المتحدة قد تخاطر بفقد حلفائها.”
وأضاف أردوغان أن “الولايات المتحدة فضلت الحفاظ على وضعها الذي يتجاهل المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وإرادة المجتمع الدولي والواقع التاريخي والاجتماعي، عن طريق نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، لقد انتهكت الولايات المتحدة جميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وأضعفت مصداقيتها أمام المجتمع الدولي، وفقدت دورها كوسيط في تسوية هذا النزاع”.
في يوم النقل، علق أردوغان من لندن قائلاً: “وجدنا أن قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها أمر مؤسف للغاية، نرفض مرة أخرى هذا القرار الذي يتجاهل القانون الدولي وينتهك قرارات الأمم المتحدة، لقد فقدت الولايات المتحدة دورها كوسيط في عملية السلام في الشرق الأوسط بخطوتها الأخيرة التي اختارت أن تكون جزءا من المشكلة بدلا من الحل، هناك شخصان مسئولان عن وفاة الفلسطينيين: السيد ترامب ونتنياهو”.
وفي خطاب آخر في نفس اليوم، قال أردوغان: “أنا أدين هذه المأساة الإنسانية، هذه الإبادة الجماعية وأولئك الذين يبقون صامتين معها”. وأشار إلى التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا حول شمال سوريا، مقارنا الدعم الأمريكي لإسرائيل وتعاونها مع الأكراد وقواتهم.
وصعَّد نائب رئيس الوزراء، بيكر بوزداج، من انتقادات تركيا للولايات المتحدة، ووصف الأمر بأنه “هجوم مشترك على جميع المسلمين”، ووصف الولايات المتحدة بأنها “الجاني مع إسرائيل”، وتابع “أن ما اتخذته الولايات المتحدة من مواقف وخطوات تسببت في هذه المجزرة.. هناك دم فلسطيني على يديها. إننا ندين بشدة الإدارة الأمريكية ودولة إسرائيل الإرهابية على الاستبداد والمذابح التي ارتكباها”.
وقد تابعت وزارة الخارجية التركية إدانتها رسميا باعتبار أن الأمر “لاغ وباطل”، وحذرت من أن الولايات المتحدة ستكون مسئولة بشكل كامل عن الآثار، كما أشارت بشكل واضح إلى القرارات المعتمدة بتوجيه تركي قوي في القمة الاستثنائية في إسطنبول لمنظمة التعاون الإسلامي في 13 ديسمبر 2017، والجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ديسمبر 2017، كدليل على أن “هذه الخطوة غير الشرعية التي اتخذتها الولايات المتحدة”، قد رفضها المجتمع الدولي.
ثم شرعت تركيا على الفور في استدعاء سفرائها من الولايات المتحدة وكذلك إسرائيل لإجراء مشاورات. كما استدعت وزارة الخارجية سفير إسرائيل، الذي وصل إلى أنقرة في 2016 كجزء من التقارب الذي رعته الولايات المتحدة بعد فترة التوقف الدبلوماسي الطويلة الناجمة عن حادث مرمرة في 2010، لإبلاغه بأنه “سيكون مناسبًا أن يعود لبلده لبعض الوقت”، وخضع المبعوث الإسرائيلي لتفتيش جسدي غير عادي في مطار إسطنبول قبل أن يستقل طائرته عائداً إلى تل أبيب.
بينما بدأت تركيا ثلاثة أيام من الحداد الرسمي في 14 مايو، والتي قال أردوغان إنها أظهرت أن الشعب التركي “وقف للتضامن مع إخواننا الفلسطينيين”.
في الوقت نفسه، بدأ أردوغان جهداً دبلوماسياً مستمراً حول القدس باستخدام المنصة الدولية الأوسع التي وفرها وجوده في لندن، بالإضافة إلى لقائه مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، وقام بسلسلة من المحادثات الهاتفية مع قادة العالم مثل الرئيس الفلسطيني محمود عباس من فلسطين، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، والبابا فرانسيس. بالإضافة إلى تقديم الدعم الكامل للاجتماع الطارئ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي دعت إليه الكويت. ودعا أردوغان في ديسمبر 2017 لعقد اجتماع طارئ آخر لمنظمة المؤتمر الإسلامي في إسطنبول يوم 18 مايو، بالتوازي مع اجتماع عام تحت شعار “وقفة ضد الظلم” في نفس اليوم.
في اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي، استهدف أردوغان الولايات المتحدة بالقول “على الرغم من كل التحذيرات، استسلمت الولايات المتحدة إلى الدوائر التي تغذي التوتر والمواجهة، بدلاً من أخذ إرادة منظمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة في الاعتبار، فضلت أن تتبع نتنياهو وبعض الإنجيليين الراديكاليين.. لقد كافأت إسرائيل التي تجاوزت في استخدام أنظمة الفصل العنصري بسياسات الاحتلال الخاصة بها وعاقبت الشعب الفلسطيني الذي يريد السلام. وبقرار القدس، مهدت الولايات المتحدة المسرح لمجازر إسرائيل ودماء الفلسطينيين الأبرياء”. هكذا أوضح أردوغان أنه ينوي تصعيد وتوسيع حملته ضد الولايات المتحدة وإسرائيل قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في 24 يونيو.
من جانبها، اختارت الولايات المتحدة حتى الآن عدم الرد مباشرة على الانتقادات التركية بخلاف إسرائيل التي ردت بالطلب من القنصل التركي في القدس أن يغادر، بالإضافة لتوجيه قادتها انتقادات لاذعة لأردوغان.
يبدو من المرجح أن هذه القضية ستؤدي إلى تفاقم الضيق الحالي في العلاقات الأمريكية التركية من خلال إضافة بعد آخر إلى قائمة المشاكل المستعصية على جدول الأعمال، والتي تشمل استمرار الدعم العسكري الأمريكي للميليشيات السورية الكردية، والفشل في تسليم رجل الدين المسلم الموجود في الولايات المتحدة فتح الله غولن، وإدانة المسئول في محاكمة التهرب من العقوبات الإيرانية، والتزام تركيا بشراء النظام الصاروخي S-400 من روسيا، واستمرار احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون.
وأعلن وزير الخارجية التركي ميفلوت جاسوش أوغلو، في 17 مايو، عن أنه يخطط لزيارة واشنطن في 4 يونيو للاجتماع مع نظيره مايك بومبيو، “لمناقشة الموافقة على خارطة الطريق في منبج التي تم الاتفاق عليها مسبقا”، و”تراجع قوات حماية الشعب الكردية”. ومع ذلك، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية هيذر نويرت في بيانها: إن “المحادثات حول منبج مستمرة، ولم يتم التوصل إلى أي شيء”، وهي علامة على أن المزاج الحالي في واشنطن قد لا يفضي إلى هذا النوع من التقدم الذي يسعى إليه ميفلوت.