محمد عايش يكتب: إبراهيم النابلسي.. وجيل “دايتون” الذي بدأ يختفي

- ‎فيمقالات

إبراهيم النابلسي حالة فريدة وغير مسبوقة في تاريخنا الفلسطيني، وهي حالة لها دلالات كثيرة ومهمة وتؤكد بأن مشروع الاحتلال لم ينجح والفلسطينيون -خاصة في الضفة الغربية- لم يتم إخضاعهم ولا تدجينهم في واقع جديد لا يُمكن تغييره.

النابلسي الذي استشهد قبل أيام في اشتباك كبير مع القوات الاسرائيلية كان عمره 19 عاماً فقط عندما اشتبك مع خامس أقوى جيش في العالم، فهو من مواليد العام 2003، وهذا يعني أنه ولد بعد انتهاء "انتفاضة الأقصى" التي اشتعلت في أواخر العام ألفين، كما أنه ولد بعد عملية "السور الواقي" التي استخدم فيها البلدوزر أرييل شارون سياسة "الأرض المحروقة" وغيَّر فيها معالم الضفة الغربية، وولد أيضاً بعد بناء جدار الفصل العنصري، وكان عمره عامٌ واحد فقط عندما شنت اسرائيل أعنف وأكبر موجة اغتيالات في تاريخ الشعب الفلسطيني راح ضحيتها مؤسسا أكبر فصيلين فلسطينيين، وهما: الشيخ أحمد ياسين والرئيس ياسر عرفات. 

باختصار، فان النابلسي يُشكل ابناً لجيل جديد بالمطلق لم يشهد الكثير من محطات الصراع بين هذا الاحتلال وهذا الشعب، وهو ابنٌ لجيل كان الاسرائيليون يراهنون على أنه سيكون مختلفاً عن سابقه، وسيكون أسهل للإخضاع من الأجيال السابقة، لكن هذا لم يحدث في الواقع.

ليست هنا الحكاية فحسب، بل إنَّ الأهم هو أن ظهور النابلسي في هذا المكان والزمان والظروف يُشكل انتكاسة لــ"مشروع دايتون"، وهو المشروع الذي يُنسب الى الجنرال الأمريكي كيث دايتون الذي وصل الى الضفة الغربية في العام 2007 عندما كان سلام فياض رئيساً للوزراء في السلطة الفلسطينية، وكانت مهمة دايتون إعادة تدريب قوات الأمن الفلسطينية، وكان الهدف المُعلن من ذلك عدم تكرار ما حدث في غزة (الحسم العسكري)، لكنَّ واقع الحال أن دايتون كان يقوم بتنفيذ مشروع أمريكي اسرائيلي يهدف الى خلق فلسطيني جديد في الضفة الغربية يتعامل مع الاحتلال على أنه "صديق" وينظر الى القوات الاسرائيلية على أنها قوات تحفظ الأمن، ويتعامل مع المقاومين على أنهم مخربين وإرهابيين.

كان النابلسي طفلاً صغيراً لا يُميز بين لعبه البلاستيكية الصغيرة عندما كان الجنرال دايتون يقوم بإنتاج فلسطيني جديد منزوع الدسم، وكان دايتون يقوم بتدريب قوات أمنية جديدة لتعمل في الضفة الغربية بدلاً من تلك التي فوجئ الاسرائيليون بها تنضم الى الانتفاضة وتشارك في القتال في أواخر العام ألفين. 

المثير في الأمر أنَّ والد النابلسي هو أحد عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وهو -أي الأب- بالفعل لم يُطلق رصاصة واحدة من سلاحه باتجاه الاسرائيليين، كما أن والدة النابلسي لم يكن لديها سوى ابتسامها وإرادتها وحفنة أحلام عن فلسطين التي في ذاكرتها، لكنهما أنجبا إبراهيم الذي يُشكل إشارة لجيل جديد يولد الآن في الضفة الغربية. 

إبراهيم النابلسي باختصار هو حكاية استثنائية جديدة، وأهم ما فيها أن الجيل الذي أنتجه الجنرال دايتون بدأ يتبخر، وأن فكرة تحويل الفلسطينيين في الضفة الغربية الى جيش يحمي الاحتلال ومستوطنيه لم تنجح، وأن إنتاج فلسطيني جديد منزوع الدسم ومتعايش مع الاحتلال وموافق على كونه إنساناً من الدرجة الثانية لم ينجح أيضاً. 

بقيت إشارة واحدة في هذه الحكاية المعقدة للنابلسي، وهو أنه ينتمي لحركة فتح، وحصل على بندقيته من حركة الجهاد الإسلامي، وأوصى بحركة حماس خيراً، وهذا معناه أن الفلسطيني الجديد في الضفة قد تجاوز الفصائلية والحزبية أيضاً، وبوصلته لا تشير سوى الى فلسطين. 

…………

نقلا عن "القدس العربي"