نتانياهو والسنوار .. من المنتصر بعد عام من طوفان الأقصى؟

- ‎فيمقالات

 

بقلم : ديفيد هيرست

 

 

لم يتوقع معلق واحد يوم السابع من أكتوبر من العام الماضي، وأنا منهم، أن الحرب ستظل رحاها دائرة على أشدها بعد عام من ذلك.

 

لم يتوقع أحد قبل عام من الآن أن تخوض “إسرائيل” قتالاً لفترة أطول من تلك التي استغرقتها عند تأسيس الدولة في عام 1948، فكل الحروب التي خاضتها “إسرائيل” منذ ذلك الوقت كانت مجرد استعراضات قصيرة للقوة المطلقة، وليس لمجرد الرغبة في المحاولة.

 

لقد قصفت “إسرائيل” غزة حتى أعادتها إلى العصر الحجري، حيث تم إلحاق الضرر بما يزيد عن سبعين بالمائة من بيوتها أو دمرت تدميراً تاماً. وها هي “إسرائيل” تتأهب لفعل نفس الشيء في صور، وفي الضواحي الجنوبية لبيروت، وفي مناطق أخرى كثيرة في جنوب لبنان.

 

لا أحد يرفع الراية البيضاء، ولا توجد مؤشرات بارزة على حدوث تمرد بين السكان – الذين يعيشون الآن في الخيام– والذي فقدوا واحداً وأربعين ألف نسمة بسبب القصف المباشر، ويكاد يصل من قضوا نحبهم في الحرب بشكل غير مباشر ثلاثة أو أربعة أضعاف ذلك العدد.

 

قالت مجلة “ذي لانسيت” إن العدد الفعلي للوفيات قد يتجاوز الـ186 ألفاً فيما لو تم أخذ عوامل أخرى، مثل المرض وانعدام الرعاية الصحية، في الحسبان.

 

فهؤلاء الناس يتعرضون للتجويع، وانتشرت بينهم الأمراض، وهم على وشك قضاء الشتاء الثاني لهم في الخيام. ويتم قصفهم بشكل يومي، وما زالوا عصيين على الخضوع. لم يسبق أن حل مثل هذا الحجم من المعاناة بأي جيل سابق.

 

ما من فلسطيني على قيد الحياة اليوم إلا ويعرف التبعات، ومع ذلك لا تراهم يهربون. معظمهم يؤثرون الموت على التخلي عن أراضيهم وديارهم للمحتل.

 

استراتيجيتان اثنتان

منذ بداية هذه الحرب، كانت هناك استراتيجيتان واضحتان تمام الوضوح لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعيم حماس يحيى السنوار.

 

بعد الهجوم الذي شنته حماس على جنوب إسرائيل، أعلن نتنياهو عن أربعة أهداف: إعادة الرهائن، وسحق كل مجموعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووي، وإضعاف محور المقاومة، وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون إسرائيل هي المهيمنة.

 

كما أنه غدا جلياً بسرعة لدى عائلات الرهائن، وكذلك لدى فريقه المفاوض وحماس ووليام بيرنز، مدير “سي آي إيه” الذي كان يشرف على المحادثات، لم تكن لدى نتنياهو النية في إعادة الرهائن إلى ديارهم.

 

وسعى إلىِ إقناع إسرائيل بأن الضغط على حماس سوف يضمن إطلاقاً سريعاً للرهائن. كان هذا مجرد هراء، فالغالبية العظمى من الرهائن – لم يبق الآن منهم داخل غزة سوى 101 – يموتون بسبب القنابل والصواريخ التي تطلقها إسرائيل. ثلاثة منهم أطلقت عليهم النيران بينما كانوا يحاولون الاستسلام.

 

تحت لواء حكومة نتنياهو اليمينية، تعتبر حياة الرهائن ثانوية بالمقارنة مع هدف سحق حماس، وذلك أنه فيما لو عاد الرهائن لواجه نتنياهو حكماً طويلاً بالسجن.

 

ولكنه، وكما غدا واضحاً، فشل في سحق حماس، ومن هنا يأتي توجهه السريع نحو خوض حرب جديدة مع لبنان وحزب الله. ما زالت حماس تسيطر على غزة، حتى الآن، ورغم محاولتين لاستبدالها كحكومة للقطاع، لم تبرز أي قوة أخرى ذات مصداقية في القطاع.

 

وحيثما غابت القوات الإسرائيلية تحضر حماس، بل ويظهر على الساحة خلال ساعات رجال الشرطة بلباس مدني لتسوية أي نزاعات طارئة.

 

في البداية جربت إسرائيل إبادة قيادة حماس، فقتلت الصف الأول والثاني من المسؤولين الذين يديرون الحكومة، حيث قضى معظمهم نحبهم في المجزرة التي ارتكبت خارج مستشفى الشفاء.

 

ولكن سنحت فرصة لتكوين فكرة عما يجري في غزة عندما أعلنت إسرائيل مؤخراً أنها قتلت ثلاثة من كبار المسؤولين في حماس – روحي مشتهى، رئيس الحكومة ورئيس الوزراء بحكم الأمر الواقع، وسامح السراج، الذي كان يحمل حقيبة الأمن في المكتب السياسي لحماس، وسامي عودة، قائد جهاز الأمن العام التابع لحماس.

 

كان ذلك في الضربة الجوية التي وقعت قبل ثلاثة أشهر، ومع ذلك لم يلحظ أحد غيابهم. وما هذا إلا لأن حماس استمرت في العمل بغض النظر عمن بقي على قيد الحياة من قادتها ومن قضى نحبه.

 

في الماضي، كانت الاغتيالات تفضي إلى مرحلة من عدم اليقين بالنسبة لحماس، وهذا ما حدث بعد قتل عبد العزيز الرنتيسي في عام 2004. ولكن لم يعد ينجح ذلك اليوم، ولم يعد يجدي نفعاً مع هذا الجيل من المقاتلين.

 

جز الرأس عمل تكتيكي وقصير المدى، يمنح القتلة شعوراً بالارتياح. لا ريب في أن قيادة حزب الله ترنحت يمنة ويسرة تحت وطأة سلسلة من الاختراقات الأمنية، بدءاً بتفجر آلاف أجهزة المناداة وأجهزة اللاسلكي المفخخة.

 

ولكن ذلك لم يفقده القدرة على الفعل كقوة مقاتلة، كما اكتشفت وحدة الاستطلاع التابعة للواء غولاني.

 

أما على المدى البعيد، فيتم استبدال القادة، كما يتم التزود بالعتاد، ويتم الانتقام للذكريات.

 

 

دور إيران

تتحمل إسرائيل المسؤولية الأولى عن ذلك، وذلك لأنها ضربت عرض الحائط، عمداً، بالأعراف السابقة للقتال، حيث بات الآن استهداف شخص واحد يشك في تواجده مبرراً كافياً لقتل تسعين شخصاً بريئاً ممن يحيطون به، سواء ثبت بالفعل تواجده في الموقع أم لم يثبت. وهكذا أبيدت عائلة بأسرها في قصف جوي لمقهى داخل الضفة الغربية، حيث قتل ثمانية عشر فلسطينياً، بمن فيهم طفلان مزقا شر ممزق. لو كان يقصد من إطلاق الصواريخ على المقاهي توجيه رسالة ما، فإن ما ينتج عن ذلك هو العكس تماماً لما كان مقصوداً منها.

 

إن الشهداء هم أفضل سبيل للتجنيد والأكثر فاعلية.

 

ويصدق ذلك في حالة كل جماعات المقاومة، كبرت أم صغرت، سواء القديمة منها أو التي تشكلت لتوها. في كل مرة تغادر فيها القوات الإسرائيلية جنين أو طولكرم أو نابلس، تظن أنها تمكنت من القضاء قضاء مبرماً على المقاومة فيها، ولكن في كل مرة تعود لتواجه المزيد من المقاتلين.

 

يولّد الإرهاب الإسرائيلي مزيداً من الإرهاب، ولا أدل على ذلك من أن تدمير بيروت الغربية في عام 1982 هو الذي حفز أسامة بن لادن على مهاجمة البرجين في عام 2001.

 

هدف نتنياهو الثالث، وهو القضاء على إيران كقوة نووية وكقوة إقليمية، هدف قديم يسبق السابع من أكتوبر بعدة عقود.

 

عند كتابة هذا المقال كنا ما نزال بانتظار رد إسرائيل على إطلاق إيران 180 صاروخاً باليستياً، تمكن بعضها من الوصول إلى أهدافها.

 

اضطر الرئيس الأمريكي جو بايدن سريعاً إلى التراجع عن تصريحات بالسماح لإسرائيل بمهاجمة مرافق النفط الإيرانية، وذلك بعد أن قيل له إن إيران بإمكانها بضربة واحدة إغلاق مضير هرمز.

 

لا يوجد من هو أكثر قلقاً من قيام إسرائيل بمهاجمة إيران من حلفاء الولايات المتحدة في الخليج. وذلك أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ذاقتا طعم ما يمكن أن يحدث لأرامكو وللصادرات النفطية فيما لو تعرضت مرافق النفط الإيرانية للهجوم.

 

ولهذا السبب أصدرت دول الخليج بياناً أعلنت فيه اتخاذها موقفاً حيادياً، مضيفة أنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام أي من قواعدها لشن هجوم على إيران.

 

ولكن الحقيقة التاريخية هي أن إيران لم تكن يوماً مركزية بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولم تنضم إلى المعمعة إلا بعد ثورتها في عام 1979. على مدى مائة عام، كان الفلسطينيون يقاتلون وحدهم، أحياناً بمساعدة من الدول العربية، أولاً من مصر، ثم سوريا، ثم العراق، ولكن كانوا في معظم الأوقات وحدهم.

 

كما أن البرنامج النووي الإيراني لا يعني شيئاً بالنسبة للنضال الفلسطيني. بل إن أكبر عامل على الإطلاق هو تصميم الشعب الفلسطيني على العيش في أرضه.

 

لا يصدر التهديد الحقيقي لإسرائيل عن إيران، وإنما يصدر عن شاب فلسطيني في جنين أو عن حارس سابق في الحرس الرئاسي في الخليل، أو عن فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية في النقب.

 

كل هؤلاء خلصوا إلى استنتاجات خاصة بهم بسبب الحالة المأساوية التي يعيشونها تحت وطأة الاحتلال. لا يحتاج أي من هؤلاء إلى تشجيع أو تحريض من قبل إيران.

 

دكتاتوريات بشعة

هدف نتنياهو الرابع هو إعادة تنظيم المنطقة تحت هيمنة إسرائيل. لكم يعشق المسؤولون الإسرائيليون الحديث مع الصحفيين الأمريكيين حول ما يصلهم سراً من زعماء “السنة المعتدلين” في العالم العربي من عبارات دعم لإسرائيل وتأييد لأجندتها فرض الهيمنة على المنطقة. وهؤلاء الزعماء كلهم دكتاتوريون في غاية البشاعة.

 

ولكن هنا أيضاً، ترتكب إسرائيل والولايات المتحدة نفس الخطأ المرة تلو الأخرى من خلال الخلط بين ما يصلهم سراً من عبارات دعم وتأييد من الأثرياء المذعنين لهم وبين الشعوب التي يزعم هؤلاء أنهم يمثلونها.

 

النموذج الساطع لهؤلاء الأثرياء المذعنين، كبير البراغماتيين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، نقل عنه خطأ على نطاق واسع تأييده لوجهة النظر التي تقول إن الحكام العرب في حقيقة أمرهم لا تعنيهم فلسطين كثيراً.

 

كان العنوان الرئيسي الذي اقتبس من محادثاته مع أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، هو النص التالي: “هل أعبأ شخصياً بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ”.

 

إلا أن الاقتباس الكامل كان على النحو الذي شرحه الأمير في حديثه مع بلينكن قائلاً: “سبعون بالمائة من شعبي هم أصغر مني سناً، ومعظمهم لم يعرفوا في الحقيقة الكثير عن القضية الفلسطينية. ولذلك فهم الآن يتعرفون عليها للمرة الأولى من خلال هذا الصراع. وهذه مشكلة كبيرة. هل أعبأ شخصياً بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ، ولكن شعبي يعبأ، ولذلك يجب علي أن أتأكد من أن هذا له معنى”.

 

كلما زاد استبداد النظام، وكلما شعر الحاكم بعدم الاتزان في أوقات الأزمات الإقليمية،  زادت حاجته لأن يبدي اهتماماً بالغضب الشعبي تجاه فلسطين. تلك هي نقطة ضعفهم، وذلك أن الاستبداد لا قبل له بإخماد التأييد لفلسطين ولا إلهاء الناس عنه بغيره. بل من شأن الاستبداد أن يعزز مثل هذا التأييد.

 

انطلاقاً من ذلك جاء إعلان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود أن المملكة العربية السعودية لن تطبع العلاقات مع إسرائيل إلا بعد إقامة دولة فلسطينية.

 

يمكن لهذا الأمر أن يذرع المكان جيئة وذهاباً، ولكن حتى الآن، على الأقل، نشهد تبدداً لأثر اتفاقيات أبراهام في إقامة تحالف إقليمي مناصر لإسرائيل.

 

أهداف السنوار

دعونا الآن ننظر في أهداف السنوار الاستراتيجية يوم السابع من أكتوبر، ولنرى أيها صمد مع مرور الوقت.

 

كان لديه هدفان استراتيجيان. ما يفكر به يمكن استنتاجه من خطابين كان قد ألقاهما في العام الذي سبق هجوم حماس. قال السنوار في أحدهما، وكان ذلك في ديسمبر من عام 2022، إنه ينبغي أن نجعل الاحتلال أكثر تكلفة لإسرائيل.

 

وأضاف: “تصعيد المقاومة بكل أشكالها وجعل (سلطات) الاحتلال تدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته في التحرير والعودة”.

 

وفي خطاب آخر قال السنوار إنه يجب على الفلسطينيين أن يعرضوا على إسرائيل خياراً واضحاً.

 

وقال: “إما أن نجبرها على تطبيق القانون الدولي، على احترام القرارات الدولية، (أي) الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى (والسماح) بعودة اللاجئين.. أو أننا، نحن والعالم، نجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية في المناطق المحتلة، بما في ذلك القدس، أو أننا نجعل الاحتلال في حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حداً لحالة اندماجها داخل المنطقة وفي العالم كله”.

 

في ما يتعلق بالنقطة الأولى، لا ريب أن حماس جعلت الاحتلال أكثر تكلفة بالنسبة لإسرائيل.

 

فمنذ أن بدأت الحرب قتل 1664 إسرائيلياً، 706 منهم جنود، وبلغ عدد من جرحوا 17,809، وعدد من أجبروا على إخلاء منازلهم 143 ألفاً، بحسب ما أوردته صحيفة “جيروزاليم بوست”.

 

وبدأ المال يهرب إلى الخارج. وعلى الرغم من عودة كثيرين من عناصر الاحتياط، الذين يبلغ تعدادهم 300 ألف، إلى وظائفهم، نشرت مجلة “الإيكونوميست” تقريراً جاء فيه: “ما بين مايو و يوليو، تضاعفت كمية الأموال المتدفقة من البنوك في البلد إلى المؤسسات الدولية مقارنة بنفس الفترة من العام المنصرم، حيث وصلت إلى ملياري دولار. ولذا غدا صناع السياسة الاقتصادية في إسرائيل أشد قلقاً مما كانوا عليه منذ بدء الصراع”.

 

أكبر تأثير منذ السابع من أكتوبر

ولكن أكبر الضربات التي وجهها السابع من أكتوبر كانت في المستوى السيكولوجي (النفسي).

 

وذلك أن الانهيار المفاجئ والتام للجيش الإسرائيلي قبل عام من الآن شكل صدمة كبيرة لم تتعاف منها إسرائيل بعد، إذ إنه تحدى الدور الأساسي الذي تقوم به الدولة في الدفاع عن مواطنيها.

 

جعل ذلك كل الإسرائيليين يشعرون بانعدام الأمان، وهذا هو الذي يفسر، وحده، التوحش الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في رده، على الرغم من الشكوك العميقة التي تساور قادة الأجهزة الأمنية.

 

إذا كان ما زال محفوراً في ذاكرة ديفيد إغناتيوس ذلك المقطع المصور لأحد مقاتلي حماس وهو يتصل بالبيت مخاطباً والدته في غزة ومفاخراً بعدد من قتلهم من اليهود، فماذا عن الآلاف من المقاطع المرفوعة على “التيك توك” من قبل جنود إسرائيليين يتباهون بما ارتكبوه من جرائم حرب؟ ما هو الأثر الذي تتركه هذه المقاطع على الكاتب في صحيفة واشنطن بوست؟ إلا أنها مغيبة تماماً من قبله ومن قبل كثيرين مثله.

 

 

لأن تقبل المرء لسردية أن السابع من أكتوبر كان هولوكوست إسرائيل هو بمثابة وضع الغمامات على العيون.

 

يعني ذلك استثناء وتبرير كل ما فعلته إسرائيل بجميع الفلسطينيين بغض النظر عن العائلة أو العشيرة أو التاريخ، إنها الهمجية التي لا تضاهيها همجية، ولا إنسانية أكبر مما يمكن أن يخطر ببال أحد من البشر حتى يوم السادس من أكتوبر أنها يمكن أن تصدر عن دولة في هذا المستوى من التحضر والتعليم.

 

وهنا، أخيراً، نصل إلى أكبر أثر تركه هجوم حماس.

 

في السادس من أكتوبر كانت القضية الوطنية الفلسطينية في عداد الأموات، إن لم تكن قد دفنت بالفعل. فبعد مرور ثلاثين سنة على اتفاقيات أوسلو، غدت غزة معزولة تماماً، وبات الحصار المفروض عليها أبدياً، ولم يكن أحد يعبأ بذلك.

 

أعلن نتنياهو انتصاره، وذلك في سبتمبر 2023، عندما لوح بخريطة في الأمم المتحدة لا وجود فيها للضفة الغربية.

 

كان هناك بند واحد في الأجندة الإقليمية. إنه التطبيع الوشيك للمملكة العربية السعودية مع إسرائيل. وكانت المنطقة في أهدأ أحوالها منذ عقود، كما كتب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في مقاله الأصلي الذي أعده للنشر في مجلة “فورين أفيرز”.

 

فقد قال في النسخة الأصلية، التي سرعان ما أعيد تحريرها وتعديل محتواها: “على الرغم من أن الشرق الأوسط ما زال يواجه تحديات معمرة، إلا أن المنطقة الآن في أهدأ أحوالها منذ عقود”.

 

ذروة النصر

في عهد أشد القيادات يمينية في تاريخها، تم التخلي عن صيغة الأرض مقابل السلام، ومعها تم التخلص من فكرة الانفصال. من خلال الاستيلاء على الأراضي والتمسك بها، كانت إسرائيل في ذروة النصر.

 

بعد السابع من أكتوبر، وصل دعم المقاومة المسلحة في الضفة الغربية إلى الذروة، فقد وضع هجوم حماس المقاومة المسلحة تارة أخرى على الأجندة كسبيل لفرض أجندة التحرير.

 

لو أن اتفاقيات أوسلو نجحت في إنتاج دولة فلسطينية خلال خمس سنين من التوقيع عليها، لما وُجدت حركة مثل حماس، أو لو وُجدت لربما تصرفت كما تتصرف مجموعة منفصلة عن الجيش الجمهوري الإيرلندي، ولما كانت قادرة على تغيير مسار الأحداث.

 

أما اليوم فحماس هي التي تغير مسار الأحداث، لأن الطريق السلمي نحو دولة فلسطينية قابلة للحياة تم سده، وكل حديث عن عملية السلام غدا مجرد سراب.

 

لم يقتصر الأمر على فشل أوسلو في إنتاج دولة فلسطينية، بل لقد أوجدت هذه الاتفاقيات الظروف التي مكنت الدولة الإسرائيلية من التوسع والازدهار بشكل غير مسبوق داخل الضفة الغربية وفي القدس.

 

كان هذا هو العامل الأهم والأكبر على الإطلاق الذي أقنع جيلاً جديداً من الشباب الفلسطينيين ببيع سياراتهم ودكاكينهم وشراء الأسلحة.

 

وحينما هاجمت كتائب القسام جنوب إسرائيل، لم يحتج هؤلاء الشباب إلى كثير من الإقناع. بعد مضي عام، ها هو جناح حماس المسلح يحظى بالبطولة في الضفة الغربية والأردن والعراق، وأظن كذلك، في أجزاء كبيرة من مصر ومن شمال أفريقيا.

 

لو سُمح الآن بتنظيم انتخابات لطيرت حماس فتح كما فعلت بها في عام 2006.

 

وعلى مستوى الإقليم، ها هو محور المقاومة، الذي ظل طوال معظم الفترة التي تلت انطلاق ثورات الربيع العربي مجرد ظاهرة خطابية، قد غدا تحالفاً عسكرياً فاعلاً.

 

وحزب الله الذي ظل لوقت طويل ينأى بنفسه عن عملية حماس، ها هو يتعرض للهجوم في الحرب مثله مثل حماس. غادر ملايين اللبنانيين ديارهم، وها هي بيروت تعاني من نفس الرعب الذي عانت منه مدينة غزة بسبب الطائرات الإسرائيلية المسيرة والمقاتلة.

 

عادت فلسطين إلى موقعها الصحيح، حيث إنها تضطلع بالدور الأساسي في حسم أمر الاستقرار في المنطقة.

 

تلاشي عقود من الجهود الأمريكية والإسرائيلية

ينقض رد إسرائيل الوحشي على السابع من أكتوبر عقوداً من الجهود الإسرائيلية والأمريكية لإقناع العرب بأن فلسطين لم تعد تملك حق الاعتراض على العلاقات الإسرائيلية العربية.

 

لقد غدا اليوم حق الاعتراض هذا أقوى من أي وقت مضى.

 

وغدا التغيير أكثر جلاء على المستوى العالمي. ولقد ساعد على ذلك تلك الرغبة الجامحة من قبل التحالف الغربي في إيجاد عدو. كان هذا العدو حتى وقت قريب هو السوفيات.

 

ثم حلت محله كتهديد عالمي ظاهرة الإسلام الراديكالي.

 

والآن يتمثل التهديد في التحالف بين الأنظمة الدكتاتورية: روسيا والصين وإيران، وكلها تسعى نحو نطاقات من المصالح من شأنها أن تقوض النظام الدولي، كما ذكر وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في مقال أخير له في مجلة “فورين أفيرز”.

 

وكما أن الولايات المتحدة لا تسعى نحو نطاق عالمي من المصالح؟ لا يبدو أن تأكيدات سوليفان أو تأكيدات بلينكن عبر فورين أفيرز تعرف الشيخوخة.

 

ولكن نتيجة لحربها، تخسر إسرائيل النصف الجنوبي من العالم وجزءاً كبيراً من الغرب كذلك.

 

لقد غدت فلسطين قضية حقوق الإنسان العالمية الأولى، وتتصدر الجهود المبذولة لضمان العدالة الدولية عبر رفع القضايا لدى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.

 

وهي التي أطلقت العنان لأكبر حركة احتجاجية في بريطانيا في التاريخ الحديث.

 

مسألة وقت

من بين الاستراتيجيتين، يبدو أن استراتيجية السنوار هي التي تنجح. وسواء عاش أو مات، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذي لا قبل لأحد بوقفه.

 

لعل نتنياهو، الذي جرأه ضعف بايدن واحتمال مجيء دونالد ترامب، الذي يقول إن إسرائيل صغيرة أكثر من اللازم، يتوهم بأن بإمكانه أن يحتل شمال غزة وجنوب لبنان.

 

من المؤكد أن ضم المناطق “جيم”، والتي تشكل معظم أراضي الضفة الغربية، سيأتي من بعد.

 

ولكن ما لن يكون نتنياهو قادراً على فعله في غزة أو في لبنان أو في الضفة الغربية هو إنهاء ما بدأه.

 

إن الذي أجبر آرييل شارون على الانسحاب من غزة أو إيهود باراك على الانسحاب من لبنان، سوف ينطبق على القوات الإسرائيلية التي يحاول نتنياهو نشرها في غزة وفي لبنان، وبشكل أعنف بكثير. إنها مسألة وقت.

 

لقد نزعت هذه الحرب عن إسرائيل صورة الصهيوني الليبرالي، صورة الغلام الجديد في الحي السكني، الذي يدافع عن نفسه في مواجهة “الحي الصعب”.

 

حلت محل ذلك صورة البعبع الإقليمي، الدولة التي تمارس الإبادة الجماعية، بلا بوصلة أخلاقية، مستخدمة الإرهاب من أجل البقاء. مثل هذه الدولة لا يمكنها العيش بسلام مع جيرانها، فهي تسحق وتهيمن حتى تظل على قيد الحياة.

 

حرب نتنياهو قصيرة المدى وتكتيكية، بينما حرب السنوار طويلة المدى، هدفها جعل إسرائيل تدرك أنها لا يمكنها أبداً الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها إذا كانت فعلاً تنشد السلام.

 

 

حرب نتنياهو عمرها سنة، ولا يمكنها الاستمرار بنفس الطريقة التي بدأت بها إلا عبر إلحاق نفس الدمار بجنوب لبنان كالذي ألحقته بغزة. لا يوجد فيها غيار عكسي. أما حرب السنوار فقد بدأت لتوها.

 

من الذي سيكسب؟ يتوقف ذلك على درجة تحمل المستضعفين. لن أستغرب أن يكون هناك من يقول: “لقد كفانا ما أتانا، نريد التوقف”.

 

ولكن بعد مرور عام فما زالت روح المقاومة مرتفعة وآخذة في النمو. إذا كنت على صواب، فهذا القتال ما زال في مراحله الأولى.

 

لقد تبدلت معادلة القوة في الشرق الأوسط، ولكن ليس لصالح إسرائيل أو الولايات المتحدة.